بقلم : دكتور عبدالرحمن موسى
بتاريخ 13/01/2025
في إحدى محافظات مصر كان “حمزه ” شابًا مصريًا ذكياً في مقتبل حياته، يعمل مهندسًا معماريًا في أحد مكاتب التصميمات المعمارية، رغم التعب الذي يثقل كاهله، كان شغفه بعمله أشبه بوقود لا ينضب، ويعاني ضغطًا كبيرًا لتوفير حياة كريمة لعائلته، لكنه يعشق عمله ويريد أن يحقق طموحه وأمله.
على الجانب الآخر، كانت “ريم” فتاة سورية جميلة وطموحة، ذات عينين حالمتين، هربت مع عائلتها من ويلات الحرب وبطش شبيحة النظام لتستقر في المحافظة ذاتها لتعمل في تصميم الأزياء وتطمح إلى بناء حياتها من جديد، فاستاجرت محلاً لبيع وحياكة الملابس النسائية، كانت تحيك كل قطعة وكأنها تروي قصة أمل مخفية في ثنايا القماش.
ذات صباح، تعطلت سيارة (حمزه) بالقرب من المحل الصغير الذي استأجرته ريم، نزل حمزه محاولًا إصلاح السيارة، وكانت ملامح التعب تبدو عليه، خرجت ريم بابتسامة ودودة وسألته: هل تحتاج مساعدة؟
رد حمزه وهو يمسح جبينه: شكرًا، لكن يبدو أنها تحتاج أكثر من مجرد إصلاح بسيط.
منذ تلك اللحظة، بدأت حكاية مميزة بينهما، كان حمزه يمُر يوميًا أمام محل ريم، يتوقف أحيانًا لشراء القهوة من المحل المجاور لها، وأحيانًا أخرى لتحية ريم، ومع الوقت تطورت الأحاديث العابرة إلى نقاشات طويلة، تطورت التحيات إلى نظرات وحوارات
وذات يوم، تلقى حمزه خبرًا محبطًا عن مشروع كان يعمل عليه لأسابيع طويلة، حيث أُجِّل بسبب مشاكل تمويل، لاحظت ريم حزنه حيث لمحت ذلك اليوم شيئًا مختلفًا في عينيه، فأعدت له كوبًا من الشاي السوري وقالت له:
“بعرف إنه هالحياة صعبة بس انت قوي وراح تتجاوز هالشيء”
كانت كلماتها بمثابة دفعة معنوية لحمزه، الذي بدأ ينظر إليها بعين مختلفة، مزيج من الامتنان والإعجاب.
استمر حمزه وريم في علاقتهما التي أصبحت تقوى وتزداد يوماً بعد يوم.
ذات يوم قررت ريم أن توسّع محلها وتطلق مجموعة جديدة من الأزياء، عرض حمزه مساعدتها في تصميم الديكورات الجديدة للمحل، أمضيا ساعات طويلة معًا، يخططان وينفذان الأفكار، وبين الضحكات والنقاشات الحماسية، اكتشفا أنهما يشتركان في رؤية واحدة للحياة.
وفي إحدى الليالي الممطرة، هطلت أمطار غزيرة على الحي، وأدى ذلك إلى غرق بعض المحلات. كان محل ريم من المتضررين، فاتصلت ريم على حمزه، حينما علم حمزه، ترك كل شيء وأسرع لمساعدتها.
وصل ليجدها تحاول إنقاذ بعض التصميمات التي عملت عليها لأسابيع، دون أن يتردد، خلع سترته وبدأ معها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وقال لها: “أهم شيء أنك بخير، أما الخسائر المادية فسنجد طريقة لتعويضها معًا” شعرت ريم في تلك اللحظة أنها ليست وحدها، وأن حمزه سيكون سندها دائمًا.
حصلت ريم على فرصة ذهبية للمشاركة في معرض أزياء كبير، لكنها كانت خائفة من الفشل، في تلك الليلة، جلس حمزه معها لساعات وهو يشجعها ويخطط معها كيف ستعرض تصميماتها، قال لها:
“الحلم الذي يخيفنا هو الحلم الذي يستحق أن نحققه وأنا هنا لأساندك حتى النهاية”
وبفضل دعمه وثقتها المتجددة بنفسها، شاركت في المعرض وحققت نجاحًا كبيرًا.
ذات مرة، أراد حمزه مفاجأة ريم بشراء هدية لها، لكنه لم يكن يعرف مقاسها في الملابس، فذهب إلى متجر للأزياء وسأل صاحب المتجر بلهجةٍ سورية:
“عندكم أواعي للمحجبات بتكون مناسبة لحدا من الشام؟”
عندما عرفت ريم لاحقًا، ضحكت قائلة: شو قصدك أواعي؟ إحنا بنقول تياب وبعدين ليش ما سألتني؟
أجاب ممازحًا: "عنادك السوري ما كان رح يخليكي تعطيني الجواب بسهولة ”
فقررت ريم أن تدعوه للغداء في أحد المطاعم السورية، وقالت له أريدك ان تجرب الكبة والشاورما بالصاج.
عندما جاء الطبق، كان حجمه كبيرًا جدًا، ما جعل حمزه ينظر إليه بدهشة ويقول:
“ده صاروخ مش سندوتش” ردت ريم: هاي اسمها صاجية، مو سندويشة، وكلها مو عشانك”
ضحك حمزه وبدأ بتناولها، ثم قال في النهاية: من يوم ما اتعرفت عليكي، صرت أحب كل شيء سوري”
ثم قام حمزه بتذوق الكبة، أبدى إعجابه قائلاً “ هاد أطيب كبة ذقتها بحياتي”
ضحكت ريم وقالت: لسّاتك ما جربت المعقودة اللي بتسويها أمي.
كل موقف مر بهما زاد من ترابطهما ومنح علاقتهما المزيد من القوة، ليصبح حبهما مثالًا يُحتذى به في مواجهة تحديات الحياة بالحب والإصرار.
وبعد أشهر من العمل المشترك والمواقف الداعمة، قرر حمزه أن يصارح ريم بمشاعره، اصطحبها إلى نهر النيل مساءً وقال:
ريم، كنت أظن أنني أعرف معنى التعب والسعي، لكنني اكتشفت أن القلب أيضًا يتعب عندما يخفي حبًا كبيرًا، وأنا أحببتك و أحبك، وأريدك شريكة حياتي”
ابتسمت ريم واغرورقت عيناها بالدموع:
وقالت له حمزه رغم كل ما مررنا به، أشعر أن القدر جمعنا لنكمل الطريق معًا، لكنني لا أحبك فقط بل أذوب فيك، فاحتضن يدها وطبع عليها قبلةً حانية.
كانت عائلة ريم قلقة بشأن علاقتها بحمزه ، حيث رأى والدها أن حمزه ربما لا يستطيع توفير حياة مستقرة لها، عندما علم حمزه بذلك، لم يتراجع أو يغضب بل ذهب بنفسه إلى والدها وقال بحزم وصدق:
“أعلم أنني في مقتبل حياتي العملية، ولا أملك الكثير، لكنني أملك عزيمة لن تُهزم، وأعدك أنني سأجعلها سعيدة دائمًا”
شعرت ريم بالفخر أمام موقفه الشجاع، وبدأت عائلتها ترى فيه الرجل الذي يستحقها.
فقررت عائلة ريم دعوة حمزه لتناول الغداء مع العائلة لأول مرة، وأرادت ريم تحضير أكلات سورية تقليدية بنفسها، مثل الكبة المقلية والفتة الشامية وطبق من اليبرق (ورق العنب)، فشعر حمزه أنه أصبح جزءًا من عائلتها.
تزوج ريم وحمزه في حفل بسيط، حضره الأهل والأصدقاء من مصر وسوريا، في حفل زفافهما أرادت ريم إضافة لمسات سورية بجانب الطقوس المصرية.
أعدت طاولة خاصة بأكلات شامية مثل الشيشبرك والكباب الحلبي، بينما حمزه أضاف الطقوس المصرية مثل الزفة البلدي والطبل الكبير.
بعد الزواج، أسّسا مشروعًا مشتركًا وحققا نجاحًا كبيرًا، ورغم التحديات، كان حبهما أقوى من أي عقبة.
كل مساء، كانا يجلسان معًا على شرفة منزلهما، يتحدثان عن أحلام جديدة ويستعيدان ذكريات البداية، مؤمنين أن الحب الحقيقي يولد من التعب والصبر.
بعد مرور عام على زواجهما، أراد حمزه أن يفاجئ ريم، أخذها إلى المكان الذي التقيا فيه أول مرة، أمام محلها القديم. أحضر باقة من الزهور وصندوقًا يحتوي على أول تصميم أنقذه من غرق المحل.
وقال لها:
“في هذا المكان بدأت حكايتنا، واليوم أعدك أنني سأظل أحبك بنفس الحماس الذي شعرت به حين التقيتك لأول مرة”
دمعت عيناها، وعرفت أن حبها له يزداد يومًا بعد يوم، لأنه رجل يثبت بالقول والفعل أنه شريك الحياة الذي لا يعوض.
بعد الزواج، كانت ريم تحب شرب المتّة مساءً، وهي عادة سورية أصيلة، ذات يوم، انضم إليها حمزه في شربها لأول مرة. جربها بتردد وقال:
“هاد المشروب غريب، مش حلو زي الشاي المصري، بس فيه نكهة بتخليك ترجع له تاني”
ضحكت ريم وأجابت:
هاد اسمها المتة وهو مشروب (يتم صنعه عن طريق نقع أوراق نبات الماتى المجففة في الماء الساخن يمكن تقديم الماتى باردًا أو ساخنًا. مثل الشاي الأسود أو الأخضر، يحتوي على الكافيين، مما يجعلك تشعر بمزيد من اليقظة والتركيز، مليئة بالفيتامينات والبروتينات والمعادن الضرورية لتنظيم مستويات الهرمونات في الجسم)
“هاي المتة صديقة الروقان، بدك تتعود عليها إذا بدك تعيش معي الشام على أصولها!”
مع الوقت، أصبحت جلسة المتة طقسًا يوميًا يجمعهما، حيث يتحدثان عن أحلامهما وذكرياتهما.
ثم قالت له غداً ستحضّر لي العروس، نظر إليها حمزه بدهشة وقال “عروس إيه ؟”
ضحكت ريم وأوضحت:
“مو عروس زفاف! بنسمي الساندويتش عروس بالشام”
بدأ حمزه يضحك وقال:
“طيب، أنا جاهز أعمل أحلى عروس لأحلى عروسة تبعي”
في أول رمضان لهما معًا، قررت ريم إعداد وجبة إفطار مميزة، جهزت مائدة مليئة بالأكلات السورية مثل (الحريرة والشاكرية (لبن مطبوخ باللحم) والتبولة، أثناء التحضير طلبت من حمزه أن يساعدها في تجهيز السلطة
و أعدّت ريم المكدوس (باذنجان محشي بالجوز والثوم ومغمور بزيت الزيتون)، وأصرّت أن يتذوقه حمزه، وحينما تذوقه أُعجب بطيب مذاقه
ضحكت ريم وقالت: “المكدوس أساسي عنا، لازم تحبه لأنك صرت شامي مصري”.
ثم أرادت ريم أن تدخل حمزه في أجواء العيد السورية. أعدّت معمول الفستق والجوز والعجوة، ولبست الزي التقليدي، عندما حاول حمزه أن يعطيها عيدية بالطريقة المصرية، قالت له ممازحة:
“لازم تقول: عيدي مبارك، ونحنا بالشام ما مناخد العيدية إلا مع بوظة شامية”
ذهب حمزه وأحضر بوظة شامية بالفستق الحلبي لإرضائها، وشعر بسعادة لرؤيتها تضحك وتستعيد ذكريات الشام.
ذات يوم، قرر حمزه اصطحاب ريم في جولة لزيارة المعالم التاريخية في القاهرة،عند وصولهما إلى قلعة صلاح الدين، بدأت ريم تتحدث عن قلعة دمشق وتاريخها العريق. قالت له:
“ما بتعرف شو اشتقت لقلعة دمشق، فيها نفس هيبة هالقلعة”.
رد حمزه :
“ما دامك معي، كل الأماكن في مصر أو الشام حتكون أحلى لأنك فيها”
أمسكت ريم بيده بابتسامة وقالت: “فعلاً، أنت صرت الوطن الثاني إلي”
كان حمزه يواجه أحيانًا صعوبة في فهم اللهجة السورية، خاصة عند استخدام كلمات مثل “شو مشان؟”.
فقالت له ريم ممازحة:
“إذا بدك تعيش معي، لازم تحكي شامي، مو مصري”.
رد حمزه :
“وأنا موافق، بس بشرط تعملي لي كوسا باللبن كل أسبوع”.
أصبح حمزه يستخدم مصطلحات مثل “ما بعرف”، و”إيش هالحكي”، ما جعل ريم تضحك في كل مرة تسمع لهجته المختلطة.
في كل موقف يجمع بين ثقافتهما، كان حمزه يتعلم شيئًا جديدًا عن الشام، بينما ريم تكتشف جمال التقاليد المصرية، كل أكلة، لهجة، أو لحظة كانت تعمّق حبهما وتثبت أن اختلاف الثقافات يمكن أن يكون مصدرًا للجمال والانسجام.
وأن الحب الحقيقي ليس مجرد كلمات، بل مواقف وأفعال تُظهر أن القلب قادر دائمًا على احتضان شخص يجعل الحياة أجمل.
وكما قال الرافعي وهو يصف التي يحبها قائلًا:
"لا يتصل بروحها شيءٌ إلا نبتَ واخضرَّ ثم نوَّر وأَزهر، كأنَّ طبيعة الجمال خبَّأت في قلبها سر الربيع. تستطيع أن تُشعرني أنها فيّ وإن كان بيننا من الهجر بُعد المشرقين، وأن تنزل السلام على قلبي وإن كانت هي نفسها الحرب، وأن تجعلني أحبّها"
إرسال تعليق